Sunday 22 December 2013

جومارو..أصبح جاهزاً !

جومارو...أصبح جاهزاً !

لم يعد الأمر خيالاً علميا في إحدى أفلام هوليوود أو في إحدى روايات الخيال العلمي الياباني. ولم يعد الأمر ممتعاً. انه مرعب بلا شك. تخيل أن يصبح قرار إبقاء انسان ما على قيد الحياة أو اعدامه بيد جسمٍ اّلي أصم لا يحتوي ذرة من أي وعي أو أي ندم، ولا يراك إلا على شكل إشارات رقميه قد لاتميز بين طفلٍ يحمل لعبة على شكل مسدس و جندي يقاتل، أو لا يفرق بين مُقعد على كرسي متحرك ورامية قذائف! لقد أصبح  الأمر مرعباً ويجب علينا الصراخ لعل احدهم استفاق من أحلام يقظته التي قد تنقلنا إلى كابوس مرعب. فحتى في أعتى الحروب ظلماً وقسوةً وبطشاً، وعندما يمتلئ قلب إحدى المقاتلين حقداً وثأراً، فإن الضحيه قد تأمل بأن تحيي دموع ما قبل الموت ذرة من أدمية قاتلها، و إن لم تفعل وقُتلت، فقد يندم قاتلها بعد حين، وإن لم يفعل فإنه قد يحاكم بما يستحق ليكون عبرةً لغيره. ولكن هذا كله لا قيمة له إذا كان القاتل في المعركة  روبوتا اّليا أصماَ يعمل وفق معادلات حسابية لا ترحم.

 فمؤخراً نشرت الوكالة الأمريكيه للمشاريع و البحوث الدفاعيه العسكريه المتقدمة (DARPA) صوراً لرجالٍ اّليين تمت صناعتهم لأهدافٍ عسكريه. ولا أدري من أي حضارة انسانيه خرجت هذه الأفكار، و إلى أي مستقبل أسود تسيّرنا. وفي حرب العراق تم إستخدام (أو قل تجربة) اّليات شبه أوتوماتيكيه في ساحات المعركة. وقد أدى خلل  ما في خوارزميات الآلة إلى إستهداف أشخاص خطأ. ووفقاً لتسريبات وكيليكس، فقد كان في العراق  ما يقرب 400 روبوت حربياً. وفي فلسطين المحتلة فإن الأبحاث التي يجريها الكيان الصهيوني في مجال "الميكاترونكس" و تحديدا الروبوتات المقاتلة و التي تجمع المعلومات تعتبر من الأكثر تقدما عالميا. و قد قيل ان بعضها استخدم في الاعتداء على قطاع غزة و في بعض النقاط الحدودية. وليس الأمر سرا من أسرار الحروب، فقد عرضت هذه الروبوتات في مؤتمرات علمية شاركت فيها الجامعات الاسرائيلية. و مؤخراً استحوذت شركة جوجل على قُرابة الثماني شركات الرائدة في مجال الروبوتات و من ضمنها شركة "بوستن داينامكس" التي تتعهد مشاريع الأجهزة الاّلية العسكرية للحكومة الأمريكية. وترفض جوجل الافصاح عما يدور في مختبراتها.

صورة من أرشيف (DARPA) لاحدى الرجال الاّلية المهيأة للاستخدام في الحرب

اذن بلا شك أن سباق التسليح الروبوتي قد بدأ منذ زمن، وبلا شك أن استخدام الروبوتات الحربية الهجومية اللاأخلاقي قد بدأ أيضا منذ زمن، و لعل استخدام الطائرات من دون طيار في قصف قرى في أفغانستان هي احدى الأمثلة الصارخة في وجه من قد يتهمنا بالمبالغة أو أننا من أصحاب نظرية المؤامرة. و عوضا من أن تُساق الأبحاث الروبوتية و الأموال الى انتاج أجهزة اّلية طبية لغايات انسانية تساعد ذوي الاعاقة على النهوض و الحركة –مثلا- فانها تستخدم لانتاج اعاقات جديدة من قبل الابحاث و الحروب التي تقودها معظم الدول و القوى العظمى. و بغض النظر عن الطرق التي يجب على الدول اتخاذها للحد من هذه الظاهرة تبقى الدول العربية – للأسف-  مُغيبة أو مُنوّمة عن هذه التطورات وتبقى كبرى انتاجاتنا العربية فخرا هي في نسج أكبر علم قماشي و في إعداد أكبر حبة فلافل في العالم!

خ.ع.ع

Thursday 5 December 2013

"انجن"

"انجن"

 خذ صندوق شكولاته و قف على باب مسجد و وزع الشوكولاته على المصليين، كلما خرجوا بحثوا عن من يطلب منهم الصدقة، لم ينتظروا ابدا قطعة من الشوكولاته، فمعظمهم يظنها للاطفال فقط، و الباقي لا يتذكر اساسا ان يأكل الشوكولاته، و سيقولون في ما بينهم "شو ماله هاظ انجن!؟" و لكنهم بالنتيجة سيبتسمون، لاجل ابتسامتهم "انجن"

استيقظ في الصباح، لملم اشياءك و انطلق، بلوح كرتوني و لونين، و خيط فهو اساسي كذلك، لا ترتب اللوح و لكن بيديك حاول ان تجعله بنفس حجم وجهك، ارسم عليه بعد تلوينه باحد الالوان باللون الاخر وجها مبتسما، اتذكر الخيط؟ استخدمه و ثبت اللوح على وجهك، و اخرج الى الشارع، انظر لكل الناس علهم يبتسموا، أضمن لك ان 80% ممن يضحون سيقولون مجنون و لكنهم بالنتيجة ابتسموا، "انجن" و ادخل الابتسامة الى قلوبهم فهم بحاجة اليها

 كلم كل اصدقاءك على الهاتف و اطلب منهم ان يسمعوك لامر مهم، اسرد عليهم طرفة لا تضحك ابدا، و اضحك بعدها بكل هستيريا على الهاتف سيصرخ معظمهم في البداية و يقول "شو مالك ولا؟ انجنيت" و لكنه سيبتسم على اقل تقدير لما قمت به من جنون، بالنتيجة سيبتسم، لأجل ابتسامته "انجن"

 اركض لحضن والدك و اساله ان يحملك كما كان يفعل و انت طفل صغير، سيقول لك في البداية "شو؟" ظنا منه انه لم يفهمك في البداية، اعد الطلب عليه، سيبتسم بالنتيجة و يرد "بلا هبل"، لأجل ابتسامته "انجن". ان كان جنونك اللحظي مرتبطا بفرحة احدهم، لا تعقل افكارك في تلك اللحظة، ارجوك "انجن" لأجل ابتسامته

 شكرا فرقة كايروكي 
ح.ا.ج

Tuesday 22 October 2013

"قد أخالفك الرأي لكن سأدافع عن حقك في إبدائه"

"قد أخالفك الرأي لكن سأدافع عن حقك في إبدائه"

اذا هاجمت أو انتقدت الأديان فقد تتهم بالزندقة او الكفر. واذا هاجمت الحكام فانك قد تلقى خلف الشمس. هذا قد يحدث بالطبع اذا كنت في الوطن العربي لا الغربي الذي يقدس حرية التعبير. ولكنك في الغرب قد تتهم بكونك "طائفي، راديكالي، ميسوجوني، هوموفوبي، اسلاموفوبي، معادي للسامية، عنصري ضد المرأة أو ديكتاتوري و في بعض الاحيان خائنا للأمة، اذا كتبت رأيك بحرية تامة (دون التحريض على العنف او الكراهية) و دون أخذ انطباع الرأي العام الغربي و نوع الخطاب في عين الاعتبار. ولذلك فانك قد لا تجرؤ على قول رأيك اذا كان يختلف بشكل جذري مع التوجهات الغربية




"جوليان أسانج"، الهاكر الذي أحدث ثورة معلوماتية و أوجد منصة إلكترونية محصنة لنشر الوثائق المهربة التي تثبت فساد الشركات العملاقة و الحكومات الفاسدة المتواطئة، سعيا لحرية اعلامية مطلقة، قد فقد مصداقيته عند معظم الأوروبيين، وهو الآن يقبع في سفارة الاكوادور في بلاد الحريات بريطانيا يبحث عن دولة تأويه. وحتى لو وجد دولة تأويه فانه لن يستطيع الوصول الى المطار لأنه سيوقف لحظة القبض عليه عند أول خطوة يخطوها خارج السفارة فهو متهم بالاغتصاب. و من يبدي شكا في شأن تهمة الاغتصاب التي تثير الجدل بسبب توقيتها، فإنك قد تتهم بالميسوجينية كما حدث ل"جورج جالاوي". وبغض النظر عن تهمة الاغتصاب التي وجهت له من صديقته التي مارس الجنس معها دون علمها لأنها كانت نصف نائمة،  فإن أسانج قد اوجد بعدا جديدا لحرية التعبير لا يجب انكاره

و "سنودن" الذي كشف للعالم فضيحة تجسس الولايات المتحدة و بريطانيا على معظم البيانات الشخصية و المراسلات اليومية لجميع مستخدمي الانترنت في العالم بما في ذلك انا و انت، يعتبره ثلث السكان الامريكيين خائنا للأمة يجب محاكمته. وهو الآن يبحث عن لجوء سياسي في اي دولة في العالم بعد ان تخلى العرب والغرب عنه ولم تبقى سوى بعض الصحف اليسارية لتدافع عنه. ولم نرى الغرب ممن يقدس الحريات ولا حتى العرب ممن يسعون لها قد احتشدوا في الشوارع طلبا لنصرته. وهناك بالطبع الجندي "برادلي" الذي هرب لقطات تصور قتل جنود امريكان لمدنيين في العراق الذي يحاكم بتهمة الخيانة ايضا بدل ان يعطى جائزة نوبل

اما العالم البريطاني المسلم "عبد الحكيم مراد" الذي يرأس كلية الدراسات الاسلامية في جامعة كامبردج، و المعروف بعمق علمه وثقافته و براعة صياغته للخطاب الديني المعاصر، قد اتهم بالهوموفوبيا  بعد ان وجد احدهم محاضرة قديمة له يصف فيها الشذوذ الجنسي بـ"الاضطراب أو الخلل". وقد طالب بعضهم بفصله من عمله بسبب هذه التصريحات التي قالها منذ اكثر من عقدين من الزمن. ولم تغن المقالات التي تدافع عن حرية التعبير وعن الدكتور "عبد الحكيم مراد" من اضطراره الا على أن يعتذر عما بدر منه منذ عشرين عاما

و "هيلين توماس" تلك الصحفية الامريكية العملاقة ذات الاصول اللبنانية، و المدافعة عن المضطهدين و المناصرة للقضايا العربية لم تسلم من الوقوع في فخ اتهامها بمعاداة السامية عندما صرحت ان على اليهود الاوروبيين الذين هاجروا الى فلسطين العودة الى اوروبا وعدم احتلال اراض ليست لهم. وقد اجبرت على انهاء خدمتها كصحفية عملت قرابة السبعين عاما  بعد هذه التصريحات. و عندما تقاوم حركة سياسية تحمل أغلبية شرعية احتلالا يتبع اجندة غربية فانها تصبح حركة ارهابية ضد الانسانية كما حدث ل"نلسون مانديلا" في جنوب افريقيا و بعض حركات المقاومة في تاريخ الثورة الفلسطينية

و يكفي ان تعلن عن رأيك  ان للمرأة دورا في المجتمع يختلف عن دور الرجل حتى تتهم بالعنصرية ضد المرأة في أعين المجتمع الغربي. أو ان تعلن مثلا ان المرأة تتصف بالانوثة و الرجل بالرجولة حتى ينزل عليك غضب الحركات النسائية. فهناك نساء يتمتعن بصفات رجولية، وهناك رجال يتمتعون بصفات انثوية سيشعرون بالاضطهاد من هذا القول. و لذلك فانك عنصري ضد الجنس الآخر

واذا حاولت ان تبدي نقدا في الفكر الديمقراطي أو تعاطفت مع الحركات السياسية الاسلامية المنتخبة التي لم تتبع الديمقراطية الليبرالية كما فهمتها و أوجدتها الثقافة الغربية بعد ثورات و تجربة خاصة عاشتها أوروبا، فإنك قد تتهم بالديكتاتوري و الاقصائي. تماما كما حدث لحركات الاسلام السياسي في مصر و أحيانا تركيا

و من الصعب في الحقيقة تبسيط المسألة في عدة فقرات و أمثلة. فما زالت زاوية الخطابة في الهايد بارك شاهدا على تقبل الرأي الآخر. ولكن من الملاحظ ان المجتمع في الدول التي تخلوا من الرقابة البوليسية هو بذاته وبشكل لا ارادي يحدد طبيعة وحدود حرية التعبير. ورغم ان هناك عناوين عامة لقيم عالمية انسانية متفق عليها، تبقى ثقافة المجتمع التي شكلها تاريخه وما زالت تتشكل وتتغير هي ما تحدد حدود حرية التعبير. و اذا ما فرضت أفكار و قيم خارجية على مجتمع ما فانها تنطوي تحت شكل من أشكال الاستعمار الثقافي. و اذا قادك هذا المقال لأن تتهمني بأني متعصب أو أعاني من الزينوفوبيا فأرجو أن تعيد مراجعة تعريفك لحرية التعبير حتى لا تشكل مثالا جديدا من أمثلة هذا المقال

خ.ع.ع

Sunday 8 September 2013

يوما ما سنتحدث العربية...

يوما ما سنتحدث العربية...

البحث في أصل اللغة العربية أمر عجيب. ذلك أنك كلما غصت في أعماقها محاولا الوصول الى القاع، وجدت نفسك قد وصلت الى سطح بحر جديد. واذا أردت الصعود شدتك العلاقة بينها و بين فطرة الانسان. فبنية اللغة مازالت لغزا حتى الان، وتفكيك كلمة الى جذرها مازال أمرا خلافيا. فمن علماء اللغة من يعتقد أن جذر الكلمة ثلاثي، ومنهم من يرى أن أصل الكلمة جذر ثتائي اقترن بأصوات سمعها الانسان من حوله كـ دبّ، دفّ، دقّ، حنّ، سفّ..الخ و أضيف حرف لاستكمال المعنى ضمن فلسفة معينة. و قد ألمح  ابن جني في كتاب الخصائص الى أن أصل الكلمة قد يعود الى حرف واحد فقط! و يتناسب معنى الكلمة مع أسلوب لفظه. فالحاء رقيق عاطفي يفيد الرفق كحب، حياة، حر، حنان، الخ. والخاء غليظ عنيف و الشين متشعب منتشر تجده في كلمات تفيد الانتشار ك"انتشار، تشعب، شجرة، شبكة، الخ ولعل طريقة نطق حرف الجيم تحتمل التجويف والاحتواء فجاءت في كلمات مثل: جيب، جوف، جرة، جرس، جمر، جمل، الخ. وهذه مجرد نظرية تحدث بها بعض علمائنا، ولكنها تبين قرب العربية من الفطرة حتى ظن بعضهم أن العربية لغة خُلق الانسان بها!
   
 وإنشاء جملة عربية أشبه بتركيب معادلة فلسفية متسقة الوزن عند نهاية كل كلمة. و يكفي أن تضيف تنوينا واحدا فتغير به الوزن لتقلب المعنى؛ ف"أنا قاتلٌ(1) الفتى" لا يعني بالضرورة أنني "أنا قاتلُ الفتى"! وقد استُحدث علم كامل من أكثر من ألف عام يهدف الى البحث في أواخر الكلم وفي نحو تحريكها حتى عرف بعلم النحو.

 و قد لا أبالغ كثيرا اذا قلت أن كل من تحدث العربية قد اعطى درساً في الفلسفة و-"علم الكلام" دون أن يعلم بذلك... يقول العالم العارف الخليل بن أحمد الفراهيدي: "الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ : رَجُلٌ يَدْرِي ويَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ عَالِمٌ فَاتَّبِعُوهُ وَسَلُوهُ ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي ويَدْرِي أَنَّهُ لا يَدْرِي فَذَلِكَ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ عَاقِلٌ فَنَبِّهُوهُ ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي وَلا يَدْرِي أَنَّهُ لا يَدْرِي فَذَلِكَ مَائِقٌ فَاحْذَرُوهُ" و من أجل ذلك وجب التنبيه!

والخليل بن أحمد الفراهيدي لمن لا يعرفه هو إحدى الأعمده الشامخة في التراث العربي. فبدايةً هو الأستاذ الحضرموتي(2)  الذي تتلمذ على يديه سيبواه والأصمعي والاخفش و غيرهم  ، وهو مؤسس علم العَروض الذي أظهر اتساق أشعار اللغة العربيه مع أنغام الحياة عندما غاص مؤسسه في بحور موسيقى الشعر ليبين 15 بحراً من بحور الشعر قبل أن يتدارك عليه أحد تلامذته البحر السادس عشر.  

 اذن، فاللغة العربية ليست مجرد لغة عاديه كما درسناها في مدارسنا العربية، فيبدو أنها مزجت مع المنطق وتأثرت وأثرت بعلم الكلام. ولا أدري لماذا يُهمل هذا الجانب عندما تدرس اللغة في مدارسنا. ويكفي أن تقرأ في كتاب "أسرار اللغة" لل إمام الأنباري (513-577 هـ) ليتضاعف علمك وانبهارك بهذه اللغة. فبداية، يفصح الامام الأنباري عن أحد أسرار العربيه البسيط عندما يجيب على سؤال: "لم قيل إن أقسام الكلام ثلاثة لا رابعة لها؟ ]الإسم والفعل والحرف]" فيجيب قائلا: "قيل لأنا وجدنا هذه الأقسام الثلاثة يعبر بها عن جميع ما يخطر بالبال ويتوهم في الخيال، ولو كان هناك قسمٌ رابع لبقي في النفس شيءٌ لايمكن التعبير عنه..." ويفضح سرا أخر من أسرار اللغة عندما يعلن سبب تسمية الاسم بال-"اسم" وذلك لأنه يسمو فوق الفعل والحرف، اذ أنك تستطيع أن تكون جملةً مفيدة باستخدام اسماء فقط دون الحاجة إلى إستخدام  أفعال أو حروف ( كما في الجملة الإسمية) فاستحق السمو؛ و كأنه يستطيع أن يقوم بذاته . و أما في الجمله الفعليه فإنه لابد من وجود الفاعل، وإذا فُقد الفاعل فإنه يبنى تلقائياً إلى  فاعل مستتر أو إلى فاعل مجهول لينوب عنه نائبه.  ولا يبنى أبداً إلى العدم أو إلى "الفوضى" فما على ذلك فطر عقل الانسان القديم على ما يبدو! وربما هذا كان شبيهاً بالمنطق الأرصطاطيلي في مسألة "السببيه" (causality).        
*     *     *
وفي ناحيةٍ أخرى نرى كيف استفادة علماء اللغة العربية من سلاستها فأوجدوا المنظومات التي تختصر لب علمٍ ما في أبيات شعر تحفظ غيباً من قبل الطلاب أو حتى الأطفال. وربما كان أشهرها ألفيه ابن ملك في النحو أو منظومة الحريري في الاعراب التي أدعو إلى إعادة ادراجها في المناهج المدرسية حتى يتشرب الطالب عراقه اللغة العربية وترسخ قوانينها في صدره.

يقول الحريري في منظومته:




فالاسمُ مَا يَدخُلُهُ مِنْ وإلى=أو كانَ مَجرورًا بِحتّى وعَلَى
مثَالُهُ زيدٌ وخَيلٌ وغَنَمْ=وذَا وتلكَ والذي ومَنْ وكَمْ

والفِعلُ مَا يَدخُلُ قَدْ والسّينُ=عليهِ مِثلُ بَانَ أو يَبِينُ
أو لَحِقَتْهُ تاءُ مَن يُحدّثُ=كقولِهم في لَيسَ لستُ أَنفُثُ
أو كانَ أمرًا ذَا اشتِقَاقٍ نحوُ قُلْ=ومثلُهُ ادخُلْ وانبَسِطْ واشرَبْ وكُلْ

والحرفُ ما ليستْ لهُ عَلامَهْ=فَقِسْ على قَولي تَكُنْ عَلامَهْ
مثالُهُ حتّى ولا وَثُمَّا=وهل وبَل ولَو ولَم ولَمَّا
 
  *     *     *

صفحة من كتاب "عنوان الشرف الوافي" للعالم إسماعيل بن أبي بكر المقرئ


وإذا ما رميت نفسك فوق جبال كتب التراث العربي التي اخترقت  السماء،  فإنك قد تجد نفسك فوق كنزٍ ملأه الغبار،  وإذا ما أزحت جزأ من ذاك الغبار، فإنك قد تعاود اكتشاف لوحه فنيه احتوت عند فك رموزها خمس لوحات سحرية. "عنوان الشرف الوافي" كتاب قد غاب عن كثير  من علمائنا المعاصيرٍين. وقد اندثر اسم مؤلفه في سطور كتب التراث التي اندثرت هي بدورها خلف أسوار الإستعمار الفكري أسفل ركام الاستغراب. كتابٌ لو وجده الإيطاليون لوضعوه في متاحفهم بجانب الموناليزا فهي مثله تقرأ بصور مختلفة تبعاً لوجهة النظر. هذا الكتاب يحتوي خمسة كتبٍ خطت حروفهم في أنٍ معاً: الفقه، والعروض، والتاريخ، والنحو، والقوافي. وقد صيغت حروفه بإبداع لتشكل حروفه العاموديه كتاباً إذا قرئت عامودياً وكتاباً أخر إذا قرئت أفقياً. فاستحق أن يكون عنوانا لشرف التراث العربي.

لم يكن هذا سوى قطرة من محيط تراثنا تمنيت أن أذيب بها خجل من يخجل أن يتكلم العربية من أبناء جلدتنا.


خ.ع.ع

 ______________________________________
(1): مع تنوين الضم فوق اللام       
(2): (لمن يدعون غياب الهويه العربيه عند علماء اللغة العربيه)

Tuesday 18 June 2013

إرهاب فلسفي !

إرهاب فلسفي !


يصحو فجأة ليجد عنقه مكبلا بسلسلة حديدية دون أن يدرك مالذي يجري من حوله. لقد أغلقت عيناه و خيطت جفونه جراحياً! في نهاية السلسلة المقابله  تصحو الضحية الأخرى؛ رجل منهك كبلت عنقه بالطرف الاخر من السلسلة، ولكنه هذه المرة يرى و يدرك الكابوس المرعب من حوله: ضحيتان ملقيتان في أطراف غرفة ما و في وسط السلسلة منشار كهربائي يسحب الطرفين معا نحو حتفهما! يصيح "الأعمى" طالبا من الاخر أن يصف له مالذي يحدث، يحاول الاخر بائسا أن يفعل ذلك، لكنه يعجز فقد خيطت شفتاه جراحيا... معضلة فلسفية  مرعبة! يتخبطان معا حتى يقتل الأقوى الأضعف فيُسحب الى المنشار، وينتهي الامتحان الدارويني وتتوقف الة القتل! و من جديد يتحفنا الابداع الغربي بنوع جديد من الارهاب... "الارهاب الفلسفي"!

كان ذلك مقطعا من فيلم "المنشار 4 " الأمريكي الصنع. وفي فيلم اخر -أكثر مرضاً- يحاول جراح نازي مختل العقل أن يحقق حلمه في أن يصنع دودة بشرية، بأن يقوم جراحياً بربط فم الضحية الاولى بنهاية الجهاز الهضمي للضحية الثانية، و هكذا حتى يخلق دودة بشرية يستعبدها كما يشاء!! فاشية مرعبة! و يتفاخر مخرج الفيلم أن الفكرة ممكنه من الناحية الطبية ! ويتحدى المخرج أن الجزء الثاني من الفيلم سيحتوي صورا مرعبة ستجعل من الأول أضحوكة. و قد صدق. فقد منع فيلمه الثاني من العرض في دول اوروبية كبريطانيا، ولكنه عرض بعد أن وافق على حذف 30 مشهدا. ولك أن تتخيل القدر المرعب من المحتوى الذي يجعل دولة تقدس حرية التعبير على أن تمنع هذا الفيلم من العرض. وفي الحقيقة هذه الثلاثة أفلام ليست سوى أفلام ضعيفة لم ترتقي الى لائحة الأكثر عشرة أفلام مرضا التي تم إنتاجها في تاريخ العالم والتي لا أنصح أبدا بالاطلاع عليها حتى لاتفقد جزءا من ادميتك! و لا أعلم في أي كون نعيش و حولنا أناس يحملون فكرا "إرهابيا" نعجز حتى أن نتصوره. ولا أدري أيضا اذا كان نقاش حرية التعبير والابداع التخيلي في هذه الأمثلة إهانة أم أمرا يجب احترامه.

صورة لإحدى الأفكار المريضة التي تحملها تلك الأفلام

وفي الحقيقة لم يكن هذا احتكارا على العقل الغربي، فالشرق الأقصى و الأفلام اليابانية تعتبر مرجعا منقطع النظير في ذلك. و لا أدري في الواقع اذا كان هذا ارهاباً في عالم الأفلام فقط أم أن له انعكاسا في واقعنا. ففي الفيلم الصيني الشهير "رجال خلف الشمس " يصور الفيلم صورا تشيب لها الولدان عن تجارب الأسلحة البيولوجية التي كانت تقوم بها المختبرات اليابانية على البشر إبان الحرب العالمية الثانية فيما كان يعرف ب"الوحدة 731" في الجيش الياباني. وهذا الفيلم لم يكن إلا توثيقا لبعض هذه الجرائم التي مارسها بعض "علمائهم". ولم تُعرف جرائمهم إلا بعد أن اعترف بعضهم بذلك بعد أن بقي جزء صغير من فطرته الانسانية يأنبه أو ربما يحاول الفرار منه! و المرعب المخزي أن بعض "أطباء التعذيب" لم يعاقبوا، بل منحوا رتبا و وظائف مرموقة في الوزارات –بعد نهاية الحرب- نتيجة للخبرة "العميقة" التي اكتسبوها من وراء تلك التجارب الحقيرة. و قد عرضت الولايات المتحدة الأمريكية الحصانة لبعضهم مقابل تهريب نتائج الأبحاث التي توصلوا لها متجاهلين بذلك أي قيم انسانية، وضاربين بمبدأي العدل و المنطق الانساني عرض الحائط.  ليجعل من السياسة الأمريكية واحدة من أكثر السياسات إرهابا من الناحية الفكرية في وقتنا. وفي جريمة بعيدة عن السياسة، يخطف ويسجن ثلاثة مجرمين في الولايات المتحدة ثلاث فتيات في منزل في حي مكتظ لعشر سنوات في قصة تداولتها وسائل الاعلام  الراقية بعد أن لاذت الفتيات في الفرار ليولدن من جديد! ولك أن تتخيل الاذلال و الاستعباد الجنسي الذي تعرضن لهن والذي قد يكون ملهما من بعض تلك الأدبيات المريضة. ولعل بعض الممارسات السادية الفاشية المهينة التي تعرض لها السجناء في أبو غريب تشابه بشدة تلك التي تظهر في روايات المفكر "الثوري" الفرنسي المختل "ماركيز دي ساد" صاحب الفكر السادي الذي يرى أن المتعة يجب أن تكون محررة تماما من كل القيود و أولها القيد الأخلاقي و الديني والقانوني! وقد حولت بعض رواياته الى أفلام في سبعينيات القرن الماضي باسم حرية التعبير "المستنزفة بقسوة" عند الغرب، ليظهر نوع جديد من التطرف الذي يُبرر باسم الحريات و الذي يتهافت عليه بعض أبناء جلدتنا كمن نوم مغناطيسيا أو سحر.

واذا كانت "أدبيات" الفكر الغربي والشرقي الأقصى تحتوي الكثير من الانحطاط الانساني فإن تاريخهم أيضا مليء بالإرهاب ضد شعوب أخرى كغزو  التتار الى محاكم التفتيش الى الحروب العالمية و المحارق الى يومنا هذا. وليس هذا المقال -في الحقيقة-  يراد به شيطنة الغرب و الشرق الأقصى، بل هو على العكس من ذلك يهدف الى إظهار مدى التباين بين تاريخ هذه الشعوب و الفكر الدموي و السادي الذي يسود في بعض أدبياتهم، وبين حضارة شعوبهم (ولا أقول سياساتهم الخرجية) الانسانية الصادقة في أغلب الأحيان في وقتنا الحاضر، و التي تعطف حتى على الحيوان قبل الانسان. وإذا ما قورن ذلك  بتاريخ و أدبيات الحضارة العربية، فإنه من الممكن الإدعاء أن الفكر والعقل العربي لم يحتوي ذلك الحقد الدموي أو الانحطاط الانساني الأدبي. وقد كانت المذابح في التاريخ العربي تحدث لأسباب سياسية محضة و لم تكن لمجرد التلذذ في التعذيب. و بالمحصلة، تخيل –عزيزي القارئ- مدى عمق قيم الحضارة الانسانية المتأصلة في حضارتنا العربية التي ستثري العالم اذا ما أطلق لها العنان.  

خ.ع.ع        

Monday 3 June 2013

ربيع حلم

ربيع حلم

هذه القصة مستوحاة من أسطورة إغريقية قديمة تدعى سزيفيوس , عن إشارات القدر المتكررة للإنسان

إنها السادسة و النصف صباحا, يدق منبهه, يستيقظ من نومه, تستيقظ زوجته و يجهز نفسه للعمل و تجهز زوجته الإفطار له, حياته منظمه جدا, يخرج من بيته إلى الشارع منطلقا لعمله, مبكرا عادته, حياته منظمة حد الروتين المتكرر, يحب هو الحياة المنظمة و يكره المفاجآت, اعتاد التفكير في طريقه إلى العمل, يخرج من بيته, السماء تمطر و لكنه لا يتناول مظلته.

باردة ... تزل للأرض بسرعة هائلة تزداد كلما قطعت مسافة أكبر, قطعت مسافة طويلة جدا لأجل هذا السقوط و ها هي بخيلاء كبير, مسرعة جدا و بكل برودة الشتاء ترتطم برأس ذلك الشاب الذي مشى تحت المطر بلا شيء يحميه, جامعا لرأسه كل قطرة مطر ممكنة يشاركها أفكارها و تشاركه دفء رأسه المضمحل, تغسل تعب أفكاره و تستغل رأسه لوهله هذه القطرات ... تنعشها لتبدأ التفكير من جديد ليعود رأسه للنشاط من جديد و لتتحرك أفكاره بطاقة لا منتهية ليعود لرأسه دفؤه و ليجذب قطرات أخرى, ليتجه المطر لرأسه من كل أرجاء السماء كما لو كان المكان الوحيد للماء النقي ليسقط عليه.

خارجا تحت المطر باحثا عن أفكار ليديرها في رأسه بدأ نهاره, ناظرا هنا و هناك, سامعا هذا و ذاك, رابطا بين الشوارع الطويلة بخطوات قصيرة, ناظرا للسماء العظيمة و قد غطتها قطرات صغيرة, حاصرا كل ضوضاء الدنيا في رأسه, متأملا كل حركات الناس بعينه و قلبه, باحثا عن ما لا يعلمه, أصوات الشوارع تحفزه, قطرات الماء الوسخة في الشارع تبلله ترسم اللوحات على بنطاله تخبره بكل ما فيها من حكايات و أخبار, عن تراب أرض أتى به فلاح للمدينة, عن طفل اسقط حلواه على الأرض, عن مدخن لم يجد غير الشارع لينفض سيجارته, عن سكير في أخر الليل اسقط زجاجته ليسكر الشارع معه, عن عكاز عجوز مشى من بداية الشارع إلى مسجد كبير ليؤدي صلاة الفجر وحده حين قلت الخطى, عن فتاة مشت مسرعة لترى ذلك الشاب المسافر و عن دموعها التي انهمرت عليه, و عن أم مشت طويلا و مرارا لأجل أيتامها, و عن أمة كثرت خطاها لأجل الحياة و عن خطاه أيضا كيف كانت و كيف أصبحت, يجمع كم الأفكار في رأسه ليكتب روايته الأولى عن الحياة في راسه بجمال في اول النهار و لا يدري خيره بعد.

 يؤدي الأدوار في كل خطوة, فهو في الأولى ذلك الشاب الذكي الواثق الخطى و في الثانية ذلك المحب القوي عنيد الخطى و في الثالثة هو الكادح المجد لأجل الحياة الذي لا يخجل من العمل لأجل العيش و في الرابعة هو ذلك الباحث بين جمع كبير عن الحرية.

 فعليا و بعيدا عن جمال الافكار السابقة الذكر هو في طريقه لعمله انطلق باكرا في المطر ليصل باكرا قبل الزحام يركب مواصلاته اليومية لأجل عمله, يصل باكرا كعادته, يقوم ببعض الأعمال كعادته, فهو في النهاية و بغض النظر عن كل جمال افكاره موظف عادي, و إذا بمديره يصل, يطلبه و بلا سابق إنذار يوبخه, لا يقول شيئا, يتقدم ناحية مكتب المدير و يلكمه, ينظر إليه المدير بقوة "أنت مفصول أنت مفصول" يلكمه لكمه أخرى و يخرج "لم تشترني براتبك أيها الحقير" يرددها و ينطلق شاعرا بنشوة الحرية, ما أن يخرج من باب عمله و إذا بالأفكار تداهمه, ما الذي فعلته أيها الغبي, لا يعلم كيف وصل للبيت يخبر زوجته بما حدث و إذا بها هي تغضب أيضا, و تبدأ بالصراخ و البكاء اللامبرر ... يصمت الصوت فجأة ... ينتفض من ذلك الكابوس الغريب ينظر إلى ساعته, إنها السادسة , لم يدق منبه نومه بعد, كان كابوسا غريبا فهو لم يفكر يوما بترك عمله, تستيقظ زوجته بجانبه تجهز فطوره و ينطلق إلى العمل .

إنها تمطر في الخارج, الشارع هو نفس الشارع الذي رآه في الحلم و لكن ما العجب فهو يسلكه كل يوم, حتى المواصلات نفسها, يصل كعادته مبكرا إلى عمله كما في الحلم تماما, ينجز عمله و يصل مديره, بعد وهله يطلبه, يستغرب هو مما يحدث, يدخل غرفة مديره و إذا به يوبخه يتقدم مسرعا و يضربه, يعود للبيت ليخبر زوجته فتبدأ بالبكاء, تبدأ الصراخ بصوت مرتفع , "لماذا لماذا" يسألها و لكنها لا تجيب, تصمت فجأة, و إذا بها تيقظه من نومه مرة أخرى عند السادسة, يتجهز لعمله و يخرج إنها تمطر أيضا, و الشارع هو هو بكل تفاصيله اليومية المكتررة, يصل لعمله, ينجز بعض الأعمال, يطلبه مديره, يدخل عليه, يجلس معه و يبدءان نقاشا عن العمل, يطول ... يستفزه مديره حد الغضب, يقف يضربه, و يخرج بكل قوة عائدا إلى بيته, يخبر زوجته و تبدأ بالبكاء... أنه لا ينتظرها أن تبدأ الصراخ و ينفض نفسه ليصحو من ذلك الكابوس الغريب مرة اخرى, يخرج مسرعا دون أن يتجهز لأي شيء يصل قبل الجميع يكتب استقالته و يضعها على مكتب المدير.

لا تنتظر التغير, اصنعه.

ح.ا.ج